الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة «كونسار» لطفي بوشناق الفنّان والإنسان دعاء «الغلبان» ونشيد الكروان

نشر في  21 ماي 2014  (10:32)

وأنا أسير في نهج فلسطين، استوقفتني المعلقة الدعائيّة لحفل فناننا الكبير لطفي بوشناق والذي احتضنه «الكوليزي» مساء الجمعة الماضي.. استوقفتني لأنّها كانت استفزازية ومغرية وغير مألوفة، فإلم يرمز بهذه التحية العسكرية وبم يبشّر مطربنا؟.. ولقد كان ذلك كافيا لأقرّر حضور «الكونسار» ناهيك أنّي لم أشاهد بوشناق في حفل منذ زمن بعيد..
..وأعترف بأنّ الجهة المنظّمة وهي جمعية خيرية متألفة من متطوّعين تجنّدوا لنجدة الفقراء حيثما كانوا من البلاد، وفي المقام الأوّل لمساعدة الأطفال البؤساء، نجحت في ترتيب الأشياء وأحكمت التنظيم، ولكن ليتها اختارت فضاء آخر، فالإضاءة باهتة في الكوليزي بل وموحشة..
بين لطفي وجمهوره، التواصل بأهداب العيون
بمجرّد أن احتللنا مكاننا في القاعة، كان أوّل ما لاحظنا، هو أنّ الجمهور المتدفق ليس ذاك  الذي يذهب الى المطربين الآخرين ولا لمواكبة بعض المسرحيات، فعشّاق بوشناق وفنّه منتقون انتقاء ومن مختلف الأعمار.. هم من طراز راق وقد أثبتوا على امتداد الحفل أنّهم سمّيعون «ميلومان» تصلهم ببوشناق علاقة متينة توّجت بإبرام معاهدة وفاء..
لقد كانت بين لطفي وأحبّائه حميمية غريبة، بل تواصل غير عادي.. كان التفاهم بينهما بأهداب العيون.. فعندما يلقي قصيدا لأحمد فؤاد نجم  ـ مثلا ـ أو مطلعا لإحدى أغنياته، يخيّم صمت جنائزي،  ولمّا يريد أن يتحوّلوا الى مجموعة صوتية، يبهرونك بحفظهم عن ظهر قلب لكلّ أعماله الناجحة، وإذا ألهب الأجواء بـ«نسّاية» أو بغيرها من ذوات الإيقاع المتسارع، تفاعلوا بالرقص إناثا وذكورا..
«الكراسي» سبب المآسي
ولقد خصّص بوشناق بحنجرته التي تجمع بين القوّة والعذوبة حيّزا زمنيا هامّا من «كونساره» الذي أسماه «تحيّة للفن» «للغلابة» المسحوقين مثبتا التزاما لا يتزعزع بهمومهم وأوجاعهم وقضاياهم.
..كانت أدعية صلوات في هيكل الإنسانيّة.. ولأنّ بعض أعماله ذات صلة وطيدة بالسياسة، بل هي وخز بالإبر لمتعاطيها الذين يعشقون «الكراسي»، ينتقد بوشناق الساسة ويفضح ممارساتهم وأطماعهم وانبهارهم بالسلطة والنفوذ.. وكم وددت لو أن أولئك الذين يتردّدون على «البلاوتوات» الحواريّة التلفزيّة كانوا حاضرين في «الكوليزي» لعلّ ضمائرهم تصحو ويكفّون عن هذيانهم ولغوهم وافتراءاتهم ومغالطة عباد الله وتضليلهم..
..بلغة، بمفرادت آية في السلاسة، وجّه «بافاروتي تونس» خطابا شديد اللهجة، مشحون المضمون، الى الذين يتهافتون على السلطة والمراكز ليستأثروا بالنّفوذ ويغنموا الثروات على حساب خبز الشعب وقوته اليومي..
..وأنا أتابع فناننا العربي في الفقرة التي أفردها لـ«حديث الساسة»، تذكّرت شريطا وثائقيا عرضته القناة الفرنسية الخامسة منذ أقل من أسبوع، وكان تحية لعملاقي السينما الايطاليّة les 2 monotres sacrés du cinéma italien لوتشينو فيسكونتي وفيديريكو فليني اللذين شغلا العالم في حقبة من الزمن بإبداعاتهما التي تجاوز صداها بلاد برج بيز المائل.. ومن ضمن ما ذكر من حقائق، أن فيسكونتي ورغم أنه سليل عائلة آرستقراطية، فقد أبى الاّ أن يؤرخ في أشرطته للحراك السياسي الذي كات تعيشه ايطاليا.. كذلك كان يتصوّر رسالة الفنان، بل إنّه ـ وهذا ورد على لسانه ـ  ليس من حقّه أن يعيش بمعزل عن مجتمعه..
«وينك يا عبد الحيّ، يا سلامة،
 يا شيخ سيّد درويش»
في «كونسار» امتدّ على ساعتين كاملتين ودون انقطاع، ومصحوبا بفرقته التي قادها ـ على عادته ـ وبكلّ اقتدار الأستاذ عبد الحكيم بلقايد وأمتعنا خلاله عازف القانون البارع توفيق زغندة باستخبار لا تحذقه ولا تقدر عليه سوى أنامله المتراقصة على أوتار آلته، على امتداد ساعتين  إذن أنشد بوشناق لكي «نحيا وتحيا الحياة»، وراوح بين أنماط مختلفة des registres différents، وبقدر ما وفق وأثار الحماسة واستنهض الهمم في المحور الذي راوح فيه بين السياسة وزفرات المعذّبين في الأرض، وتسلطن في شهيراته من الأغاني التي تلقى هوى وأيّ هوى في نفوس «التوانسة»، من «ريتك ما نعرف وين» و«انت شمسي» و«العين اللّي ما تشوفكشي» و«نسّاية»، مع العلم أن الوصلة الثانية خضعت لمبدإ «ما يطلبه المستمعون» أي كانت  à la carte بما يرضي كل المشارب والأذواق..
..ومن سوء حظّي أنّي لم أسمع رائعتين اثنتين أعشقهما عشقا لا متناهيا، وهما «هذي غناية ليهم، و«أنا حبيت.. وينك يا عبد الحي يا سلامة يا شيخ سيّد درويش»، نعم أينكم، فبونشاق يستحقّ معاصرتكم، وأمّا هذا الزمن فليس زمنه.

نجيب الخويلدي